الاثنين، 25 نوفمبر 2013

عبد الله العروي: الثقافة ليست قضية سياسية أو اقتصادية عابرة.. الثقافة أكبر بكثير

الثقافة ليست قضية سياسية أو اقتصادية عابرة.. الثقافة أكبر بكثير


* عبد الله العروي:عندما حاولت الكتابة بالدارجة

الثقافة ليست قضية سياسية أو اقتصادية عابرة.. الثقافة أكبر بكثير

كما كان متوقعا، أثار الجزء الأول من الحوار الذي نشر أمس ردود فعل عديدة في أوساط المهتمين والمثقفين وعموم القراء المغاربة، وهي مسألة مفرحة لأنها تدل على أن الوهم السائد بانعدام اهتمام الناس بقضاياهم الكبرى هو وهم خاطئ تماما. أيضا هو أمر مفرح لأنه أكد لنا صواب الاختيار وأكد لنا صدق الحدس المهني الذي  جعلنا نراهن على كبير  من أكابر القوم في المجال لكي نستمع إلى رأيه في الموضوع الحساس والحيوي المسمى لغتنا وهويتنا.
العروي الكبير له الأوراق المغربية, وهو القادر على الحديث دون مواربة عن زمن السياسة عبر ديوانها, وهو “الغربة” وهو “اليتيم” وهو أيضا مجمل تاريخ المغرب,  فمفهوم الإيديولوجيا الشهير, ثم مفاهيم الحرية والدولة  قبل مفهوم التاريخ,  وهو الخواطر الصباحية الشهيرة وبقية المؤلفات التي تعد إسهاما فعليا وحقيقيا في التأسيس لفكر مغربي آخر, منطلق, حر, له العلاقة المثلى بالمعرفة التراثية: علاقة الرغبة في النهل منها حد الاستفادة ثم المرور إلى الأشياء الأخرى.
لذلك كان ضروريا الإنصات لصوته في النازلة. والنازلة هنا أمر جلل للغاية يسمى لسان الناس ولغتهم, خصوصا بعد دعوة أطلقتها توصيات صادرة عن ندوة علمية من أجل تبني التدريس بالمغربية الدارجة خلال سنوات التعليم الأولى.
صوته أتى يوم الحديث الأول معه عن الموضوع حاسما ولا يقبل أي نقاش: أريد أن أتحدث في هذا الموضوع.وهي ليست المرة الأولى فقد تعود أن يدلي بالدلو المعرفي الكبير دائما حين الجد، من ربيع العرب إلى قضية المغاربة الأولى «الصحراء المغربية».
في مثل هاته اللحظات تحس بوزن المثقف الفعلي وقد تبنى خيار الإسهام حقا في نقاش بلاده ومواطنيه, وقرر ألا يبقى في البرج العاجي الشهير الذي يهرب إليه  أمثاله تخوفا أو تحرجا أو تزلفا أو اختيارا للبقاء غير مبالين نهائيا.
هو أصلا فعلها أيام 20 فبراير, وأيام ما عرف بالربيع العربي, وأعطى رأيه الواضح والصريح في الحكاية ككل, وهو يعود ليفعلها مرة أخرى هنا في قضية اللغة المغربية المعربة من خلال حديث طويل عريض لا يترك أي تفصيل إلا ويطرقه لكي يصل في الختام إلى مايعتبره الصواب اليوم, ولكي يطلق النداء واضحا وصريحا من أجل عدم التفريط بسهولة في الثقافة العربية واللغة في مقدمتها شرط القدرة على التطوير وعلى الالتحاق بالزمن الحديث, زمن كل اللغات خصوصا منها الإنجليزية.
على امتداد ثلاث ساعات تحدث الكبير العروي بكل صراحة, وبكل صدق, وبكل إيمان واضح وظاهر بالقضية. قضية اقتناعه أن وراء الأكمة أشياء يجب أن تقال لئلا يقال في يوم من الأيام إنه صمت ولم يعلن الموقف مثلما يجب أن يخرج إلى العلن.
في بهو الهيلتون الرباطي الشهير, لم يترك لآلة التسجيل فرصة الانطلاق ولم يترك لنا فرصة الجلوس لكي يشرع في الحديث “هذا الموضوع وحده استطاع أن يخرجني من مقبعي, لأنني لا أستطيع السكوت عنه, ولابد من قول بعض الكلام”.
ذلك الكلام, كله أو بعضه, أو ما اقتنصت آلة التسجيل من بحار العروي, ومابقي في الذاكرة من اللقاء, وما يجب أن يصل إلى الناس في هاته اللحظات هو المكتوب على امتداد حلقات  الحوار, رسالة من مؤرخ ومفكر وكاتب كبير يمتلك كل شرعيات الحديث عن الموضوع, ويمتلك أساسا شجاعة الإقدام على الخوض فيه في لحظة قرر فيها العديدون أن يتناولوه إما بالاعتداء الجاهل عليه, أو بالتجريح في مخالفيهم الرأي, أو باختيار الاصطفاف العقيم وراء المسلمات الجاهزة دون رغبة في الفهم, أو حتى محاولة “ارتكاب” هذا الفهم قبل الانطلاق في التنظير والكلام الكبيرين.
نصيخ السمع لعبد الله العروي في الجزء الثاني من  الحوار, ونسمع منه كل الكلام. لنتابع 

وقفنا بالأمس عند سؤال نصوص الدارجة التي سيدرسها التلميذ عندما يصل إلى مستوى دراسي معين، وأن الدارجة فقيرة على هذا المستوى، ولن يجد التلميذ ما يدرسه، عكس العربية الغنية بنصوصها وما تحمله من معاني وإيحاءات.

أنا مسكون بهذه القضية ومثقل بأسئلتها لأنني حاولت في المشروع الأصلي لرواية “اليتيم” أن أكتب بالدارجة، وفكرت في كتابته من أوله إلى آخره بالدارجة بلا نقطة ولا فاصلة، ولكن شيئا فشيئا بدأت مستويات الكتابة تختلف. مستوى الدارجة خاص بالتواصل فقط، ثم مستوى العربية لما ترتفع وتتعقد تعابيرها وإيحاءاتها وإحالاتها. يمكن أن أقرأ مقطعا من هذه الرواية لتقف بالملموس على ما قلت. لا يحضرني الآن مقطع التواصل بالدارجة، ولكن المقطع المكتوب بالعربية يقول “وماذا تركت لتشاهديه معي؟ بجانبك أشاهد كل شيء من جديد، انتظرت هذه الدقيقة منذ خمس عشرة سنة. نعم طالما تمنيت أن ترى البندقية في الشتاء. ها فصل الشتاء وها أنت في البندقية. ماذا فعلت في الغربة طوال هذه السنين؟ حسبت الأيام، ثم تخيلتك، وعشت مع غيري، لقد أعانوني على الحياة. نسيتك فتذكرتك، ثم نسيتك فتذكرتك. هذه دقائق مفصولة من الماضي، وعن المستقبل، وهذه مدينة مقطوعة عن الغرب والشرق، كنائسها كالمساجد، لنبتعد برهة عما قد وقع، وعما قد يقع. إننا هنا بسبب أشياء وقعت منذ أزمان متقادمة، لنفرض أنها حدثت البارحة، لنفرض، ولنذهب حيث يجتمع الشباب. أفضل أن أرى امرأة مسنة، شعرها أبيض، تشده سفيفة زرقاء، ينظر إليها زوجها، قميصه من الصوف الملون وكأن لم يمر على زواجهما إلا يوم. سنبحث اليوم أو غدا عن السقاية المشؤومة، سقاية الموت في البندقية. سنذهب إلى الأكاديمية لنرى العاصفة وانفجار الساعة، وفي متحف كوكنهاي لوحة ماكريت، زرقة ماكريت، والقبر الصغير المكتوب على رخامه “إلى أولادي الأعزاء”، ومن هم هؤلاء أصحاب الأسماء اليونانية، أولاد يتامى، بل كلاب. العطف على الحيوان سخط على الإنسان، والعطف على الإنسان سخط على القدر، وتعلو وجه ماريا موجة من اليأس”. كيف كنت سأكتب كل هذا بالدارجة؟! لا يمكن كتابته بالدارجة لأن فيه إيحاءات، إيحاءات البندقية وهيمنغواي وتوماس مان. هذا تراكم مائتي سنة، وتلاقح بين هذه الحضارة واللغة العربية المكتوبة التي استطاعت أن تستوعب هذه المعطيات في عمقها، وتعبر به بهذا الأسلوب. بالتالي، علينا أن ننتظر مائتي سنة أخرى حتى ننجح في فتح الدارجة على هذه المعطيات ونحقق فيها كل هذه التراكمات! وعلينا أن ننتظر مائتي سنة حتى ننجح في التعبير بالدارجة تعبيرا أدبيا محملا بالإيحاءات! هل نملك الزمان الكافي لتحقيق هذه النتيجة التي تستطيع العربية تحقيقها دون مشاكل؟ هل استوعب نور الدين عيوش وكل الدعاة إلى التعبير بالدارجة هذه الحقائق؟ هل فكروا فيها وفي مضيعة الوقت التي يستدعيها بناء الدارجة؟ ما يدعون له ليس بالبساطة التي يتصورونها، والقضية لا صلة لها باستعمال بعض التعابير بالدارجة مثل “ما تقيش ولادي”، وانتهى الأمر. هذه القضية يجب أن يبتعد عنها الأشحاص الذين لا علاقة لهم بالثقافة لا من قريب ولا من بعيد، ولا حق لهم في أن يتدخلوا في أمور كبرى تقتضي التسيير والتخطيط لمستقبل شعب بكامله. الثقافة ليست قضية سياسية أو اقتصادية عابرة، الثقافة أكبر بكثير.

وماذا عن تمغربيت والخصوصية المغربية؟

أما مسألة “تمغربيت” فأقول عنها إنها تعود إلى نوع من الانعزالية، وأظن أن رجل السياسة بالمغرب لا يمكنه اليوم أن يطبق هذه السياسة الانعزالية، ولكن أنا باعتباري رجل ثقافة لدي الحق في أن أميل مع هذا الاتجاه أو ذاك. لهذا أقول في قضية الدعوة إلى التدريس بالدارجة، أرفضها وأنا أعتز بمغربيتي وخصوصيتي، وهذه مسألة لا علاقة لها بقبول تلك الدعوة، ولا بشعوب الشرق، وإنما لها علاقة بثقافة وبمخزون ثقافي، يضم كتاب “ألف ليلة وليلة” و”بخلاء الجاحظ” و”كليلة ودمنة”. في قراءاتي الكثيرة لبخلاء الجاحظ، أقف في كل قراءة على أنني أقرأ كتابا جديدا لم يسبق لي أن قرأته. هل نتخلص من هذا الكتاب ونمحوه من ثقافتنا بدعوى أنه لا يمت بصلة إلينا، وأنه كتاب كتب في البصرة؟! نتخلص من البخلاء ومن ألف ليلة وليلة والأدب الأندلسي، فماذا سيتبقى لنا في المغرب؟! ستتبقى لنا تمغربيت؟! أسأل هنا، ما هي الثقافة المغربية؟ ستقول الثقافة المغربية هي اليوسي، سأرد عليك بأن اليوسي كتب محاضراته باللغة العربية، ولم يكتبها بالدارجة أو الأمازيغية، والأمر نفسه بالنسبة للمختار السوسي. هل نطوي صفحة هذه الثقافة المغربية المكتوبة بالعربية ونبدأ من جديد كأننا شعب ليست له ثقافة مكتوبة، ويريد أن يخدم ثقافته الشفوية؟! لهذا السبب رفضت منذ أول كتاب كتبته، وهو “الإديولوجية العربية”، ما سميته “الثقافة الفلكلورية”. لماذا رفضت هذه الثقافة؟ حتى لا نجد أنفسنا في ذلك المستوى البدائي الذي هو في طور الانفتاح على الكتابة والمكتوب اللذين التحق بهما الإغريق منذ ثلاثين قرنا، والعرب منذ ما يقرب من عشرين قرنا، ويأتي البعض منا ويقول، الآن في القرن الواحد والعشرين، علينا أن نبدأ من الصفر ونهتم بتمغربيت واللغة المغربية الشفوية كأننا لا نتوفر على لغة مكتوبة وعلى ثقافة مكتوبة! نتنكر لتلك اللغة وتلك الثقافة وندعو إلى الاهتمام بالدارجة ونكتبها ونخدمها لتصير بعد مائتي عام لغة وطنية قادرة على إنتاج الثقافة المكتوبة!

ولكن هناك تجارب عدة شعوب استطاعت أن تستقل بلغاتها الوطنية.
يا سيدي، أنا مستعد لتقديم أمثلة على هذا الصعيد. هناك مثال الهولنديين الذين مرت عليهم الآن أربعة قرون حين سعوا إلى الانفصال عن إسبانيا التي لا يجمعهم بها لا الدين ولا اللغة، فكتبوا لغتهم المحلية، وصارت الهولندية كما كتبت تدل على مستوى أعمق من اللهجات الألمانية الأخرى، لأن تلك اللهجات ظلت شفوية، بينما الهولندية صارت لغة مكتوبة، لكنها بالمقابل حفظت وجمدت في هذا المستوى ولم تتجاوزه مقارنة بتلك اللهجات التي استمرت حية. الهولنديون متقدمون الآن اقتصاديا وسياسيا، ولكن من يهتم في العالم بالثقافة الهولندية؟! ومن يقرأ ما يكتبه الكتاب الهولنديون بلغتهم الوطنية؟! هل سبق لك أن قرأت لشاعر هولندي ما كتبه من شعر بلغته الهولندية؟ هل قرأت لروائي هولندي؟ الجواب معروف على أن الثقافة الهولندية أنتجت شعراء وقصاصين وروائيين من الطراز الرفيع، لكن لغتهم المحلية حالت دون شهرتهم على الصعيد العالمي. مبدعون كبار ولا أحد يعرفهم خارج هولندا، بل منهم من اضطر إلى الكتابة بالإنجليزية حتى ينجح في مغادرة لغته الوطنية التي تحكم عليه بالانغلاق، وهذا ما قام به المختار السوسي حين قرر الكتابة بالعربية حتى تعرف كتاباته انتشارا أوسع. المختار السوسي كان يتحدث في بيته وحياته اليومية بالسوسية، فتخيل معي لو أنه كتب “المعسول” بالسوسية فمن كان سيقرأ ذلك الكتاب الذي ما زال إلى اليوم مقروءا ويثير أسئلة قرائه من غير السوسيين. هنا أنتقل إلى المثال الثاني، يتعلق الأمر بجيمس جويس الذي عاش في محيط إيرلندي يعادي اللغة الإنجليزية ويدافع عن اللغة الوطنية اللسلتية القديمة والخصوصية الإيرلندية مقارنة بثقافة الإنجليز ولغتهم. عاش جويس في هذا المحيط الذي يحتفي باللغة المحلية على مستوى الشعر والأغاني والمسرح، وكتابة هذه المستويات، لكن الروائي ارتأى ألا يؤدي ثمن الخطأ الذي ارتكبه أجداده الأبعدون الذين لم يطوروا لغتهم ولم يكتبوا بها، وفضل أن يعيش خارج وطنه الأم، وأن يتعامل مع اللغة الإنجليزية كأنها لغة قابلة للافتراس. تعامل معها كأنها لغة مفترَسة، يفترسها أثناء الكتابة بها، بحيث لو قرأها إنجليزي فسيقول هذه ليست لغتي الإنجليزية التي أعرفها وأتقنها. لو كتب جويس رواياته المشهورة الآن بلغته الوطنية، من كان سيطلع عليها ويقف على براعة روائي من الطراز الرفيع؟ سيقرؤه الإيرلنديون الذين لا يتجاوز عددهم أربعة ملايين نسمة، وأما الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة فلا يعرفون لغتهم الأم. أنتقل إلى الهند التي تصل لغاتها المحلية إلى مائتي لغة، كل مقاطعة تتحدث لغتها الخاصة بها، واللغة الرسمية ليست هي السنسكريتية، اللغة الدينية القديمة، وإنما الهندوستانية التي يتحدث بها أكثر من مائتي مليون هندي، ومع ذلك لا يعرف من الهنود إلا من يكتب بالإنجليزية. أكثر من ذلك، اللغة البنغالية التي يتحدث بها أكثر من ثلاثمائة مليون من البشر، فطاغور الكاتب البنغالي الشهير، ألف كتبه بالإنجليزية، ولم يكتبها بالبنغالية التي تزخر بثقافة وآداب عريقة، لو كتبها بلغته الوطنية لظل حبيس بلاده ولن يعرف الشهرة العالمية التي حازها.

حتى لا نبتعد عن موضوعنا، اللغة العربية الفصحى لغة رسمية رسمها الدستور، أما خانة اللغة الوطنية فما زالت شاغرة، وتنظر الملء باعتماد اللغة المغربية التي تتحدث بها الأغلبية الساحقة من المغاربة.

تمعن في ما سأصرح به. ذهبت بعيدا في قبول أن تكون الدارجة لغة التدريس في السنوات الأولى من التدريس الابتدائي. هذا هو ما يطلبه نور الدين عيوش. بل ذهبت أبعد من ذلك، حين دعوت إلى كتابة الدارجة بحرف خاص بها يميزها عما سواها. لم أقف عند هذا الحد، بل ذهبت بأن اعتماد الدارجة في التعليم الابتدائي، لا يمنع من النبوغ في العلوم والتقنيات والفنون. هناك نقطة واحدة ظلت معلقة، وهي الثقافة الأدبية. إذا اعتمدنا الدارجة لغة مكتوبة سينقطع المغاربة عن الثقافة العربية وما أنتجته طيلة قرون من إرث ثقافي وأدبي، وما زالت تنتجه. الأمر هنا لا يتعلق فقط بقطيعة مع الشرق العربي وشعوبه، وإنما سيتعلق بقطيعة مع الحضارة العربية ومع ما ساهم به المغاربة وأهل الأندلس في تلك الحضارة. إذا اكتفينا بتعليم الطفل الدارجة فستنقطع صلته انقطاعا كليا بتلك الحضارة وثقافتها.

ستحدث هذه القطيعة إذا تم إقصاء العربية الكلاسيكية من الحقل اللغوي المغربي، أما إذا لم يقع ذلك الإقصاء واستمر استعمال تلك العربية فلن تحدث تلك القطيعة وسيستمر اتصال المغربي بالثقافة العربية والتفاعل مع ما أنتجته وما زالت تنتجه.
حاول أن تستوعب تصوري للقضية. سيكون ذلك بالتدرج كأنك تقود سيارتك وتنتقل من السرعة الأولى إلى السرعة الثانية فالثالثة والرابعة. إذا انطلقت في تعليم الطفل بالدارجة فقط، لا يمكن أن تنتقل به بعد ثلاث سنوات، إلى أن يختار بين إحدى اللغات الأجنبية واللغة العربية الموحدة وليست العربية الكلاسيكية.

أنا لا أسميها عربية كلاسيكية، ومن هذا الذي يتكلم العربية الكلاسيكية الآن؟!

لا يوجد شخص يتحدث بها، وإنما هناك من يكتب بها. في دردشتنا الآن، لا نتحدث بالدارجة كما يتحدث بها الناس في الشارع وحتى في البيت، وإنما نتحدث بلغة بين بين، بين الدارجة والعربية، إنها اللغة الوسطى. لنأخذ الصفحة الساخرة التي تنشرها يوميا جريدة “الأحداث المغربية”، وهي بالمناسبة صفحة مكتوبة بغير العربية، وأتمنى أن تعرضوها على شخص مستواه التعليمي بسيط لم يتجاوز المستوى الثالث ابتدائي، وتطلبوا منه قراءة ما كتب فيها، أكيد سيلاقي صعوبة كبيرة في قراءة ما تسمونه دارجة. اللغة التي تكتبون بها تلك الصفحة الساخرة، لغة لا يمكن أن يقرأها إلا الذي يقرأ بالعربية الفصحى. إذن ما معنى هذا الاستنساخ؟ إذا كانت هناك صعوبات في تدريس العربية التي أسميها معربة، وكانت هذه اللغة تعاني من مشاكل، فعلينا أن نقوم بتيسير تلك الصعوبات وإصلاح المشاكل التي تعاني منها، وإصلاح تلك العربية ليس بإبدالها بالدارجة، لأن الدارجة لا تصلح لهذه المهمة التي تطلبون منها، فهي أكبر منها بكثير.

إذن، تعترفون بكون العربية تعاني من مشاكل وتعيش أزمة حقيقية.
نعم، ولكن هذا لا يعني إصلاح مشكل بمشكل أكبر منه. لا يمكن إصلاح مشاكل العربية بالدارجة، لأن الدارجة تعاني من أزمة أكبر، بل أخطر من أزمة العربية. مع ذلك يمكن أن أجيب عما طرحته. الذين ينادون بتبني الدارجة لغة للتدريس والكتابة، لم يطلعوا على ما كتبه ابن خلدون في مقدمته. ابن خلدون عرض نقاشا طويلا وعريضا حول الدارجة، ويقول إن الدارجة لغة قائمة بذاتها، ولكن ابن خلدون يفسر في الوقت نفسه، لماذا تأخر المغاربة في النطق بأصوات العربية مقارنة بالمشارقة، ويستحضر الكتاتيب القرآنية وقراءة القرآن جهرا، لأن الغاية من تلك القراءة ليست الحفظ ولا الفهم أو التدين، وإنما بغاية إصلاح النطق ومخارج الحروف نتيجة ما أصابها من تأثيرات الأمازيغية وأدت بالمغربي إلى كثرة الإذغام وغياب المصوتات، وأبعدته عن النطق السليم لأصوات العربية كما ينطقها السوريون والمصريون. الغاية إذن هي توحيد النطق ومخارج الحروف، بحيث يمكن أن تكون قادما من موريطانيا أو من العراق، ولكن تنطق الحرف العربي كما ينطقه الآخرون. هذا نظريا لأنه صعب الحدوث، ومع ذلك كان الرهان على التوحيد على مستوى مخارج الحروف. أقول هذا لأتوجه إلى الدعاة إلى تبني الدارجة لغة للتدريس والكتابة، وأستحضر عبارة “ما تقيش ولادي”، لو كانوا يتقنون النطق بمخارج حروف الدارجة كما ينبغي النطق بها لما كتبوا “ما تقيش”.

ماذا أصاب هذه العبارة؟

كل مغربي ينطق لغته نطقا سليما ويحافظ على مخارج الحروف كما هي، سيقول “ما تقيسش”، وليس “ما تقيش”. ماذا سيفعل الدعاة إلى تدريس الدارجة وهم يتوجهون إلى طفل صغير السن، هل سيقولون له “ما تقيش”، أو “ما تقيسش” حتى يستوعب النفي الواقع في فعل “تقيس” قبل أن تدخل عليه “ما” المستعملة للنفي، وأن “ش” لحقت ب”تقيس” لرسم ذلك النفي للفعل. لاحظ هنا أنك لم تغادر لغة سيبويه ولم تتخلص منها وأنت تسعى إلى تدريس الدارجة ووضع نحو لها. زيادة على مناطق كثيرة من المغرب، لن تستعمل عبارة “ما تقيسش”، وإنما ستستعمل عبارة “ما تمسش”، وأكتفي بالتلميح إلى من يستعمل عبارة “ما تقيسش”.

* مفكر ومؤرخ مغربي

حاوره : المختار لغزيوي/ جمال زايد




قراءة في كتاب :«جدلية العقل والمدينة في الفلسفة العربية المعاصرة…

*  محمد بنحماني

 
مصدر المقالة : قراءة المقالة




قراءة في كتاب :«جدلية العقل والمدينة في الفلسفة العربية المعاصرة…

*  محمد بنحماني

1ـ تقديم
صدر مؤخرا عن دار «منتدى المعارف» ببيروت  كتاب للدكتور محمد المصباحي بعنوان :«جدلية العقل والمدينة في الفلسفة العربية المعاصرة». وهو كتاب يستدعينا فيه صاحبه للتفكير في علاقة العقل بالمدينة . فالعقل  هنا  هو استعارة للفلسفة، بينما المدينة هي استعارة للسياسة  أو الدولة. وهذا معناه أننا أمام كتاب في الفلسفة السياسية أو في «فلسفة الحق». 
وهكذا سنكون أمام كتاب يشكل تحولا في فلسفة صاحبه، وكذا في الفلسفة العربية المعاصرة . لكن بالمعنى الذي يكون فيه التحول استئنافا، أي وصلا وفصلا مع كتابات فلسفية سابقة أو سائدة.
2ــ جدل العقل والمدينة بما هو استئناف للقول الفلسفي العربي في فلسفة الحق
إن كتاب جدل العقل والمدينة جاء أولا  ليستأنف فيه الأستاذ المصباحي اهتمامه المبكر، كمناضل في صفوف اليسار، بشؤون المدينة، ليعود إليها من جديد بعد أن غادرها مؤقتا نحو النص الفلسفي في إشكالاته الدلالية، كاهتمام لم يمنعه من مد عينيه نحو ما تحيل عليه هذه الإشكالات من قضايا عملية لها علاقة بالمدينة. لكن هذه المرة سوف لن يعود إلى المدينة كمجرد مناضل يساري، بل كمفكر  يربط سؤال التفسير والتأويل بسؤال التغيير، والعقل النظري بالعقل العملي. كما أنه كتاب جاء ليستأنف التفكير في ما عجز الفلاسفة المسلمون  التفكير فيه بجدية، أي في قضايا العقل العملي أو ما كان يسميه ابن رشد بالوجود الضروري، وذلك لأن الأفق  الفكري والتاريخي والاجتماعي لهؤلاء الفلاسفة لم يكن ليسعفهم في ذلك، فتركوا مهمة هذا التفكير إلى الفلاسفة العرب المعاصرين، والذين يفترض فيهم أن لا يسكتوا العقل العملي باسم العقل النظري، أو يعلوا من الوجود الأفضل على حساب الوجود الضروري.
وأخيرا فإنه كتاب جاء أيضا  ليستأنف فيه الأستاذ محمد المصباحي  ذلك الانفتاح على الآخر الذي طالما  نادى  به فلاسفة التراث، انفتاح عبر عنه  هنا في هذا الكتاب في محاورته لستة من الفلاسفة العرب المعاصرين هم: الحبابي، والجابري، والعروي، وناصيف نصار، وآركون، وحسين مروة. هاجسه في هذا الحوار ملء ذلك الفراغ الذي طالما تشكى  منه  صاحب هذا الكتاب (وغيره من المفكرين العرب)،  ويتجلى في غياب الحوار بين أهل الفلسفة من العرب المعاصرين، كغياب حال دون تشكل فكر فلسفي عربي، أي مجال فلسفي مشترك يحيل بعضه إلى بعض. ذلك المجال الذي منحه هذا الكتاب اسما  حركيا هو «العقلانية التاريخانية»  والتي تستحق النقد والمتابعة، وذلك في أفق تكريس تقليد فلسفي عربي قوي، من شأنه أن يقي الذات العربية من الرجوع إلى كهف  الكينونة الخامل (جدل ص53) وما يحيل عليه من تهميش لوجود الذات وعدم اعتراف بفاعليتها.
3ــ جدل العقل والمدينة كما
تصورته الفلسفة العربية المعاصرة
وفاء منه لمنهجه الدلالي الإشكالي، ولرؤيته  العقلانية الواقعية والجدلية والمفتوحة، ولحلمه بالدولة الليبرالية الديموقراطية والمابعد العلمانية، فإن الأستاذ محمد المصباحي سينصت للعبة الدلالة في نصوص المشاريع الفلسفية لهؤلاء الفلاسفة، لدرجة أن القارئ يجد صعوبة في التمييز بين ما ينتسب لهذه النصوص وما ينتسب لهامشها من انتقادات مصباحية ، إنصات سيمكن صاحب الكتاب من رصد الإشكالات والمفاهيم  والمناهج والرهانات التي تحتكم إليها هذه النصوص، بحيث  يزج بالقارئ في أدق الاختلافات بين هؤلاء الفلاسفة، لينتشله بعد ذلك ويضعه أمام تركيبات وخلاصات تحيل على ما يجمعهم ويوحدهم  خلف اختلافاتهم.
وهكذا فمن الخلاصات التي يحفل بها هذا الكتاب  استخلاصه بأن اختلاف عقلانية  وتاريخانية هؤلاء، يخفي مع ذلك تعاقدهم على حمل «همّ زرع العقلانية والتاريخانية في تفكير الأمة لإعادة تربيتها وإعادة قراءة تاريخها وتراثها كي تصبح قادرة على التعاطي مع الحداثة من موقع الاعتزاز بالذات والإقدام على الفعل التاريخي الخلاق» (جدل العقل والمدينة ص11). فبالرغم من تنظيراتهم المختلفة للعقلانية في إطار إعادتهم  النظر في العقل بصفة عامة وفي العقل التراثي بصفة خاصة، والتي عبروا عنها في العقلانيات التالية : عقلانية إيمانية لدى الحبابي، عقلانية تراثية نهضوية لدى الجابري،  عقلانية جدلية لدى ناصيف نصار، عقلانية حداثية كونية لدى العروي،عقلانية مركبة لدى آركون،عقلانية ثورية لدى حسين مروة . فإن عقلانيات هؤلاء الفلاسفة،  تتوحد مع ذلك  في كونها جميعها تريد لنفسها أن تكون تنويرية إما فكريا، أو سياسيا، مراهنة بذلك على تحديث أو نهضة المجتمع العربي، انطلاقا من تجاوز أسباب فشل هذا التحديث أو النهضة سابقا، وكدا  برد الاعتبار للتاريخ كمحرك للوجود البشري.
فعلى مستوى إعادة النظر في العقل التراثي، اعتبر أصحاب هذه العقلانية بأن هذا العقل هو ما يشكل قوام الذات العربية الإسلامية، بل هو هذه الذات. وبما أنه هو المسؤول عن تأخر المدينة العربية، فإن إصلاح هذه الأخيرة وتحقيق نهضتها وحداثتها، مشروط بإصلاح هذا العقل، فهو مفتاح الدولة، أي مفتاح الاقتصاد والأخلاق والسياسة. فإصلاح هذا العقل يعني تخليصه من عوائقه وإكراهاته الثقافية والإيديولوجية والتي كبلته وأفقدته حريته في التفكير والإبداع.
أما على مستوى رد الاعتبار للتاريخ، فإن هؤلاء الفلاسفة اختلفوا في التعبير عن  تاريخانيتهم بحيث نجد، التاريخانية الأونطولوجية عند الحبابي، والتاريخانية الإيديولوجية عند الجابري، والتاريخانية الإبستيمولجية عند آركون، والتاريخانية الفلسفية عند العروي، والتاريخانية المادية عند حسين مروة. لكن هذا  الاختلاف لم يلغ مع ذلك إجماعهم حول مدلول هذه التاريخانية.  فبما أنهم  كانوا يعتبرون بأن العقل وراء كل شيء في المعرفة والوجود، فإنهم اعتبروا  بأن التاريخ وراء كل شيء في النفوس والمجتمعات. فهو عنوان التجديد والنسبية والمعاصرة .
وهكذا فإن  عقلانية وتاريخانية هؤلاء الفلاسفة  جعلتهم يعتبرون بأن تضافر العقل والتاريخ من شأنه أن ينتشل الإنسان العربي من سباته واستغراقه في مطلقاته النظرية والعملية .
4ــ مفارقات جدل العقل والمدينة
في الفلسفة العربية المعاصرة
إن هذه المشاريع الفلسفية الستة مهما بدت لنا منسجمة في تصورها لجدل العقل والمدينة ، مع ما تطمح إليه من تنوير وإصلاح، فإنها مع ذلك لا تخلو من مفارقات  حسب صاحب الكتاب. فهي جميعها قد فشلت  « في خلق رأي عام عربي وإسلامي يؤمن بالعقلانية، وبالتالي بالإنسان والحرية والتاريخ والتقدم العلمي والتقني والأخلاقي والسياسي! ومع ذلك، فهي  لا تعي هذا الفشل ولا تفكر في أسبابه، بحيث إنها لا تتساءل مثلا عن أسباب رسوخ تلك المفارقة في الجامعات العربية والمتمثلة في عدم تأثير المعارف العلمية والعقلية التي يتلقاها الطلاب على سلوكهم اليومي، وكذا على رؤيتهم للعالم وللشأن السياسي.  كما أنها لا تتساءل أيضا عن أسباب ذلك التراجع المستمر للمجتمعات العربية والإسلامية  نحو أكثر المواقف والأفكار تطرفا وتشددا، و لماذا تمكن الربيع العربي من توظيف أكثر المعارف عقلانية (المعرفة الرقمية) للإطاحة بأعتى الأنظمة السياسية، بينما لم يتمكن من ترسيخ رأي عام سياسي عقلاني وديموقراطي في صفوف الجماهير؟ وبما أن المطلوب فلسفيا في الراهن العربي  هو طرح هذه التساؤلات  لتشخيص أسباب هذا الفشل، فإن الأستاذ محمد المصباحي، وفي إطار إخضاعه  هذه المشاريع الفلسفية لمنهجه الدلالي الإشكالي، فإنه يستبعد أن تكون هذه  الأسباب راجعة  إلى عدم استطاعة هؤلاء الفلاسفة ملاءمة عقلانيتهم مع التركيبة الثقافية لمجتمعاتهم، بل على العكس من ذلك، فجميعهم كانوا مسكونين بهاجس هذه الملاءمة كل بطريقته الخاصة. كما لا يمكن أن نعتبر حكمنا بفشل هذه الفلسفات، بأنه حكم يستعجل من هذه الأخيرة تغييرا هو بطبيعته بطيء، أي التقدم العلمي والعقلاني، مقارنة مع المد اللاعقلاني. وأخيرا لا يمكن إرجاع هذا الفشل إلى تشدد أصحاب هذه الفلسفات في طموحاتهم، وذلك لأنهم متشبثين بأدنى الطموحات. وهكذا فإن فشل هؤلاء يرجع في جزء منه في نظر الأستاذ محمد المصباحي إلى كون تاريخهم وواقعهم لم يسمح لهم أن يحلموا بزمن يكون فيه الإنسان حرا، وبعالم لا سيادة فيه سوى للعقل. فمازال المشعوذون والمستبدون يتكاثرون كالفطريات يوميا في جنح الليل، ولا تزال الأمية تنهش قلوب الناس وعقولهم. هذا زيادة على كون العقل وما يتصل به في العالم المتقدم قد تعرض لموجات من النقد، الشيء الذي كوّن انطباعا  في العالم العربي على أن مصير كل عقلانية هو الفشل، وعلى أن المطلوب هو الكف عن المطالبة بالعقل.
لكن هذا الفشل في نظر صاحب الكتاب  يجب  أن لا يثني  الفلسفة العربية المعاصرة عن تحدي أسبابه، وذلك  بالإلحاح على مطلب العقلانية في أبعادها الواقعية والجدلية والمفتوحة، لأننا، كما يقول، لو تنازلنا عن هذا المطلب، لتنازلنا عن  إنسانيتنا ولتخلينا عن ما يؤهلنا لاستعادة المبادرة والفعل الإيجابي والحضاري في التاريخ، وبالتالي عن حقنا في المساهمة في الحداثة من موقعنا الخاص. ومن هنا تأتي، في نظره، ضرورة التفكير من جديد في علاقة  العقل بالمدينة،  لتجاوز مطبات فلاسفة التراث وكذا الفلسفات العربية المعاصرة. وهي مطبات لها علاقة بتصور هذه الفلسفات  لكيفية  فتح مسالك التأثير والتفاعل بين العقل والمدينة.وبالتالي للعلاقة الجدلية بينهما.
5ــ جدل العقل والمدينة من منظور
الفلسفة المصباحية
إن رصد هذا الكتاب لمظاهر فشل هذه المشاريع الفلسفية  ، كفشل يرجع في جزء منه إلى طبيعة التصور الذي قدمته هذه المشاريع  لجدل العقل والمدينة ، قد كان منطلقه تصور فلسفي بديل لهذا الجدل. وهكذا فإن هذا الكتاب  ينتهي بنا إلى أن الحديث عن جدل العقل والمدينة ، يعني أولا  كون العلاقة بين الطرفين هي علاقة «إضافة» و»معية» أي علاقة لا يتقابلان ويتعاندان فيها إلا ليستدعي أحدهما الآخر ويطلبه، وأن تكون كذلك فمعناه أنها علاقة  فصل ووصل، علاقة قوامها  الحفاظ على تلك المسافة الضرورية بين العقل (الفلسفة) والمدينة (السياسة)، وذلك تجنبا للتضحية بالفلسفة لصالح السياسة، لأن الفلسفة في هذه الحالة ستختلط  بالمصالح  الاجتماعية والإيديولوجية المباشرة بحيث ستفقد حريتها، وبالتالي معناها  ورسالتها الأصلية (جدل العقل ص 143)، هذا مع العلم أن  الفلسفة كما كان يقول ابن رشد  يجب أن تنأى بنفسها عن الإيديولوجيا (علم الكلام) وعن الجمهور، لتحافظ على وجودها كقول مستقل. فهي أحد أنواع الوجود، لذلك فهي قادرة على حماية نفسها بنفسها دون اللجوء إلى الاحتماء بالمدينة أو السياسة.(البقية في الصفحة الموالية).

* أستاذ الفلسفة بثانوية م رشيد التأهيلية/قصبة تادلة

عبد الله العروي :التدريس بالدارجة يروم تقويض الوحدة الوطنية

التدريس بالدارجة يروم تقويض الوحدة الوطنية


له الأوراق المغربية, وهو القادر على الحديث دون مواربة عن زمن السياسة عبر ديوانها, وهو “الغربة” وهو “اليتيم” وهو أيضا مجمل تاريخ المغرب, فمفهوم الإيديولوجيا الشهير, ثم مفاهيم الحرية والدولة  قبل مفهوم التاريخ, وهو الخواطر الصباحية الشهيرة وبقية المؤلفات التي تعد إسهاما فعليا وحقيقيا في التأسيس لفكر مغربي آخر, منطلق, حر, له العلاقة المثلى بالمعرفة التراثية: علاقة الرغبة في النهل منها حد الاستفادة ثم المرور إلى الأشياء الأخرى.
لذلك كان ضروريا الإنصات لصوته في النازلة. والنازلة هنا أمر جلل للغاية يسمى لسان الناس ولغتهم, خصوصا بعد دعوة أطلقتها توصيات صادرة عن ندوة علمية من أجل تبني التدريس بالمغربية الدارجة خلال سنوات التعليم الأولى.
صوته أتى يوم الحديث الأول معه عن الموضوع حاسما ولا يقبل أي نقاش: أريد أن أتحدث في هذا الموضوع.
في مثل هاته اللحظات تحس بوزن المثقف الفعلي وقد تبنى خيار الإسهام حقا في نقاش بلاده ومواطنيه, وقرر ألا يبقى في البرج العاجي الشهير الذي يهرب إليه  أمثاله تخوفا أو تحرجا أو تزلفا أو اختيارا للبقاء غير مبالين نهائيا.
هو أصلا فعلها أيام 20 فبراير, وأيام ما عرف بالربيع العربي, وأعطى رأيه الواضح والصريح في الحكاية ككل, وهو يعود ليفعلها مرة أخرى هنا في قضية اللغة المغربية المعربة من خلال حديث طويل عريض لا يترك أي تفصيل إلا ويطرقه لكي يصل في الختام إلى مايعتبره الصواب اليوم, ولكي يطلق النداء واضحا وصريحا من أجل عدم التفريط بسهولة في الثقافة العربية واللغة في مقدمتها شرط القدرة على التطوير وعلى الالتحاق بالزمن الحديث, زمن كل اللغات خصوصا منها الإنجليزية.
على امتداد ثلاث ساعات تحدث الكبير العروي بكل صراحة, وبكل صدق, وبكل إيمان واضح وظاهر بالقضية. قضية اقتناعه أن وراء الأكمة أشياء يجب أن تقال لئلا يقال في يوم من الأيام إنه صمت ولم يعلن الموقف مثلما يجب أن يخرج إلى العلن.
في بهو الهيلتون الرباطي الشهير, لم يترك لآلة التسجيل فرصة الانطلاق ولم يترك لنا فرصة الجلوس لكي يشرع في الحديث “هذا الموضوع وحده استطاع أن يخرجني من مقبعي, لأنني لا أستطيع السكوت عنه, ولابد من قول بعض الكلام”.
ذلك الكلام, كله أو بعضه, أو ما اقتنصت آلة التسجيل من بحار العروي, ومابقي في الذاكرة من اللقاء, وما يجب أن يصل إلى الناس في هاته اللحظات هو المكتوب على ثلاث حلقات أيام الأربعاء والخميس والجمعة, رسالة من مؤرخ ومفكر وكاتب كبير يمتلك كل شرعيات الحديث عن الموضوع, ويمتلك أساسا شجاعة الإقدام على الخوض فيه في لحظة قرر فيها العديدون أن يتناولوه إما بالاعتداء الجاهل عليه, أو بالتجريح في مخالفيهم الرأي, أو باختيار الاصطفاف العقيم وراء المسلمات الجاهزة دون رغبة في الفهم, أو حتى محاولة “ارتكاب” هذا الفهم قبل الانطلاق في التنظير والكلام الكبيرين.
نصيغ السمع لعبد الله العروي في التالي من الأسطر, ونسمع منه كل الكلام. لنتابع

قلتم قبل انطلاق الحوار إن موضوع التدريس بالدارجة المغربية هو الذي أخرجكم من المخبإ حيث تقبعون. كيف ذلك؟
أخرجني من مقبعي لأنني أنظر إلى أبعاده التي تروم تقويض الوحدة الوطنية. هذه قناعتي الراسخة في ما يخص موضوع التدريس بالدارجة. سبق لي منذ شهرين، أن تحدثت في هذا الموضوع مع ابن شقيقي الكاتب فؤاد العروي المغترب في هولندا، وقلت له صراحة أنا لا أتفق معك في ما كتبته حول الدارجة، وأن هذه القضية أنجزت حولها بحوثا، وأعلم أنه لم يطلع على ما كتبته في كتاب “ديوان السياسة” حيث لخصت جميع آرائي حول الدارجة، وقدمت له أمثلة لا تعد ولا تحصى لأبين له أن هذه القضية لن تطبَّق، وأن نتائجها ستكون عكس ما كان يتوخى منها، وأنها تقوم على خلط كبير.

ما هو هذا الخلط؟
الدارجة لكي ترسم يجب أن تكتب بحروف مناسبة. ما هي هذه الحروف؟ إما أن تكتبها بالحرف العربي وإما أن تكتبها بالحرف اللاتيني، لكن إذا اخترت كتابتها بالحرف اللاتيني فعليك أن تخلق حروفا جديدة كما فعل الأتراك لما اختاروا كتابة اللغة التركية بالحرف اللاتيني، وحتى عندما تنجح في هذه المهمة، فهل هذا ممكن أو غير ممكن. إذا كان ذلك ممكنا فحينها ستستقل الدارجة وتصير لغة قائمة الذات، وتنفصل حينئذ عن اللغة الأم. هذا ما حصل في جميع البلدان التي انفصلت فيها اللغات الشفوية عن اللغة الأم. هذا موضوع يهمني وأهتم به كثيرا، ويحتاج مني إلى ثلاثة أيام وليس إلى ثلاث ساعات.

لنعد الآن إلى أصل هذا النقاش ككل, لنعد إلى توصية التدريس بالدارجة.

إذا كانت النقطة الأولى تتمثل في مشكل التلميذ الذي يلتحق بالمدرسة، وتمر عليه خمس سنوات ولا يحسن لا القراءة ولا الكتابة مقارنة بالتلميذ الإنجليزي أو الفرنسي والإسباني. إذن المشكل المطروح هو قضية التواصل، وهنا تدخل توصية التدريس بالدارجة المغربية التي خرجت بها ندوة “سبيل النجاح”. لكن يا سادتي، التواصل هو موضوع الشفوي والثقافة الشفوية لها آلاف السنين لما انفصل الإنسان عن الحيوان، ووقف على قدميه وصار يستعمل يديه ويشتغل بهما، وبدأ يستعمل حنجرته في إنتاج الأصوات. هنا دخل الإنسان في الحضارة الشفوية، التي لها تعابير مختلفة ومواصفات خاصة بها، ثم دار الزمان وانتقل الإنسان منذ سبعة آلاف سنة إلى مستوى الكتابة أو استعمال الرمز في بلاد الرافدين. لا غرض لنا بالدخول في تفاصيل هذا الموضوع، ما يهمنا أن الشفوي لم ينحسر ولم ينته أمره بانتقال الإنسان إلى عهد جديد هو عهد الكتابة، بل على العكس، استمر في الوجود إلى جانب الكتابة. استمر الشفوي في الوجود على مستوى معين، إما على مستوى العائلة أو القبيلة الصغرى أو الكبرى، ليضمن التفاهم على هذا المستوى، إذ لا يمكن التفاهم مع قبيلة أخرى أو منطقة أخرى، خارج القبيلة. لضمان التفاهم مع هذا الخارج لابد من الرمز، الذي هو الكتابة، والكتابة هنا كانت إما مسمارية أو هيروغليقية، وإما أبجدية أو فنا، وكما فعل ذلك الملك في حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، لما حلق شعر شخص بكيفية مخصوصة وأرسله إلى الشخص المعني على أساس أن تلك الكيفية في حلق شعره رسالة موجهة إليه، وعليه أن يقرأ رمزها ويفهمه. ما أريد قوله هنا إن انفصال الإنسان عن الحيوان لم يلغ حيوانية الإنسان، ولكنه أضاف إليها شيئا آخر، كذلك الأمر بالنسبة للكتابة التي لم تلغ الشفوي، واستمر هذا الأخير إلى جانب الكتابة. الكتابة أضافت شيئا جديدا إلى الشفوي.

هذه النقطة تحتاج إلى المزيد من التوضيح حتى يستوعبها القارئ.

نسمي المكتوب كتابا، ونسمي المدرسة كُتّابا، والمتعلم هو الذي يعرف الحروف وتعلم كيف يفك رموزها بقراءتها وفهمها. لذلك جاءت المدرسة، وهذه هي الغاية المتوخاة من المدرسة. المدرسة لا علاقة لها بالبيت، والمدرسة لا تربطها أدنى صلة بمسائل التفاهم خارج البيت وفي الشارع. هنا تدخل رجل متخصص في الشفوي وأموره العينية، في شؤون المدرسة التي هي شؤون الكتابة، ولا علاقة لها بالشفوي والتواصل في البيت والشارع. العربية هي لغة الكتابة، ولا دخل لها في شؤون التواصل في البيت والشارع، وهي لغة المدرسة. إذا كان الطفل يبلغ خمس سنوات، وبدأت تفسر له الأمور تفسيرا شفويا، عليك أن تعلمه الرمز. ينبغي تعليم الطفل الرموز الكتابية. أقدم هنا مثالا نادرا ما يفكر فيه المهتمون بهذا الشأن، يتعلق الأمر بالموسيقى، والموسيقى الشعبية على الخصوص، الجميع يعلم أن هذه الموسيقى تلقائية، وحتى يتم الحفاظ عليها ينبغي كتابتها حتى لا تضيع.
كتاب الأغاني للأصفهاني لم يدون الأغاني بالنوتة المعروفة الآن فضاعت تلك الألحان لأننا لا نعرف كيف نفك تلك الرموز التي كتبت بها الأغاني أيام العباسيين. الأمر نفسه بالنسبة للأوربيين الذين يجهلون كيف كان الغناء لدى الإغريق القدامى، لأن تلك الأغاني لم تكتب كتابة موسيقية تحافظ عليها، وتنقلها للأجيال.

ما علاقة هذا الكلام بالتدريس بالدارجة عوض العربية؟
ـ إذا سايرنا هذا المنطق، وأردنا أن نحافظ على موسيقانا المغربية، هل نقول “ماذا سنستفيد من تعليم الطفل كتابة النوتات الموسيقية؟ وماذا سيستفيد الطفل وهو يتعلم رموز تلك الكتابة الموسيقية؟ لا غرض له بكل ذلك ولن ينفعه في تعلم تلك الموسيقى، يكفيه أن يتعلم تلك الأغاني تعلما شفويا”! هل ستقبل هذا القول؟! لا فرق بين هذا المثال وقضية تعليم الطفل رموز اللغة المكتوبة. المشكل أننا لا نهتم بهذا الموضوع ولا نفكر فيه. ابني يبلغ خمس سنوات وألحقته بالمدرسة وطالبت المعلم بأن يتحدث إليه بلغته التي هي الدارجة، ماذا سيعلمه بتلك اللغة؟! هل سيتحدث المعلم إلى الطفل ليعلمه لغته التي تربى عليها ويتقن التحدث بها؟! هل سيلقنه الكلام الذي يتكلم به؟! هذه هي الأسئلة التي لا يطرحها المطالبون بتعليم الطفل بلغته الأم التي يتحدث بها في البيت. المعلم سيعلم الطفل أمورا أخرى غير لغته التي يتحدث بها في البيت. سيعلمه القراءة والحساب. سيعلمه الحروف وكيف يقرؤها ويربط بينها في الكلمات، وسيعلمه قراءة الأرقام والأعداد. هذه هي مهمة المدرسة ودورها عندما يلتحق بها الطفل. دور المدرسة ليس هو تعليم الطفل اللغة التي يتحدث بها في البيت. أطرح هذا السؤال، ألا يقوم الأستاذ بتعليم الحساب واللغات للطفل بالدارجة في المستوى الأول والثاني والثالث؟ هل يعلمه ذلك بلغة سيبويه؟! وبالتالي فالدعوة إلى تدريس الطفل بالدارجة، إما هي زائدة، أو أن لها توخيات أخرى غير تلك المعبر عنها في الظاهر، والتي لا علاقة لها بالتعليم ولغته.

في هذه النقطة بالذات، كيف تردون على صاحب الدعوة إلى التدريس بالدارجة؟ 
يمكن أن نتوجه إلى صاحب الدعوة إلى التدريس بالدارجة، ونقول له “نتفق معك في ما تدعو إليه، وسنتحدث في المدرسة مع الطفل الذي يبلغ عامه الخامس بلغته الأم، وسنعلمه كيف يقرأ ويكتب، يعني أننا سنعلمه الحروف، فهل هذه الحروف ستكون حروف الدارجة أم ستكون حروف لغة أخرى، إما العربية أو البربرية أو الإنجليزية؟ وسنعلمه رموز الحساب، والتمييز بين الرمز 4 و5 أو 6، ونفسر له الفروق بينها والعمليات الممكنة بينها، سنعلمه كل هذا بالدارجة، وسيبقى المضمون هو الحساب. سيقضي الطفل ثلاث سنوات الأولى في التعلم بهذه الطريقة، وإذا قارناه بتلميذ إسباني في سنه، سنجد أنهما يتوفران على نفس المستوى. هنا لن يعترضنا أدنى مشكل على مستوى تدريس الطفل بلغته، وليس هناك جهة تحارب تعليم الطفل بالدارجة في السنوات الأولى، وهذه الطريقة هي المعمول بها في المدرسة المغربية، وإذا اختار المسؤولون فرضها على المدرسين فلا بأس في ذلك، وسنلزمهم بألا يتحدثوا إلى الطفل عن الإعراب والنحو أو الصرف، وأي معلم خرق هذا الأسلوب في التعليم، سنخصم من أجرته نسبة معينة. عندما سيبلغ هذا الطفل عامه الثامن، سيكون قد أتقن الحساب وعملياته بالدارجة مثله في ذلك مثل البقال، وأتقن التعبير عن نفسه بلغته. أريد هنا تسجيل ملاحظة أراها غاية في الأهمية، وهي أن الطفل سيعبر عن نفسه أحسن بالعربية المعربة، ولكم أن تجربوا قراءة الدارجة مكتوبة بحروف عربية، فأكيد أنكم ستلاقون صعوبة كبيرة أثناء قراءة كلمات الدارجة. بل حتى كتابة الدارجة بحروف لاتينية لن يحل هذا المشكل، مقارنة بسهولة قراءة كلمات العربية المعربة.
من الأفضل أن نعود إلى ذلك الطفل وهو يتابع تعلمه بالدارجة

أعود إلى الطفل وقد بلغ عامه الثامن، وقضى ثلاث سنوات في التعلم بلغته الأم، كيف سنتعامل معه؟ هل نستمر في تدريسه بالدارجة؟ هل نمر إلى تعليمه التربية الفنية والتربية العلمية والثقافية؟ ليس هناك مشكل في تدريس الطفل الموسيقى والرسم بلغته الدارجة. أما بالنسبة للتربية العلمية فعكس ما يقال حول المشاكل التي تواجه العربية في تدريس العلوم، لأن التربية العلمية ليس لها مشكل مع أي لغة، لا مع العربية ولا مع الدارجة أو أي لغة أخرى، لأنها مبنية على رموز خاصة كالرقم 5 أو 6، ولأنها رموز كونية يستعملها الجميع، نحن في المغرب اخترنا الرقم العربي، بينما اختار المشارقة الرقم الهندي. كلما تقدم الطفل في التعلم كلما توسعت الرموز وتقدمت معرفته بها في الحساب والرياضيات وعلوم الحياة.

أين سيعترضنا المشكل بالتالي؟
المشكل سيعترضنا في التربية الأدبية، لأن هذا الطفل الذي بلغ الآن عامه الثاني عشر، وعلمته في السنوات الأولى بلغته الدارجة، وتقدم في مستويات تعلم الكتابة بالحرف العربي وحتى الحرف اللاتيني كما نادى بذلك بعض اللبنانيين، وصار قادرا على كتابة الدارجة وقراءتها، هنا ستنقطع صلته بالعربية المكتوبة ونصوصها. يمكن أن ينجح في حفظ بعض الآيات القرآنية في حصة التربية الدينية، مثله في ذلك مثل أي تلميذ أوربي ينجح في حفظ مقاطع من الإنجيل باللغة اللاتينية، دون أن ينجح في فهم معناها. سيصير التلميذ هنا كأي مسلم غير عربي في ماليزيا أو أندونيسيا، ينجح في حفظ تلك الآيات وترديدها صوتيا دون فهمها. يمكن أن يكون هذا التلميذ متفوقا في عامه الثاني عشر، في العلوم والتربية الفنية، ولكن ما هي النصوص التي سيتفوق في قراءتها في القسم والبيت؟ بل، ما هي النصوص التي سيعتمد عليها ليتعلم؟ ستعلمه قراءة ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب؟! وهو شاعر كبير بالدارجة. أنا أستاذ اللغة العربية، وأمامي تلميذ تعلم بالدارجة في سنواته الأولى، وقررت أن أدرسه ديوان هذا الشاعر المغربي الكبير، لأنني لا أتوفر على نصوص أخرى، كيف سأفسر له أدبيا أبيات قصائد ذلك الديوان (لا تحسبوها رخيصة  راه كل معشوق غالي)؟ ما هو معناها؟ ما هو مغزاها؟ سأضطر إلى ربط تلك القصائد بالتصوف وسأعمل على تلقين تلامذتي ما هو التصوف وتاريخه، وسأجدني مجبرا على تدريس التربية الدينية التي اعتقدت أن الدارجة ستبعدني عنها. أكثر من ذلك، فإن أنا أردت تربية الذوق الفني لدى التلميذ، علي أن أفسر له ذلك الشعر المكتوب بالدارجة، ولا يمكن أن أفسره إلا بالعودة إلى الوزن العربي الأصيل. هذه العملية ضرورية لتحقق الفهم لدى ذلك التلميذ إذا كان ناطقا بالعربية، أما إذا كان أمازيغيا فذلك أمر آخر. ما أريد الوصول إليه من هذا الكلام، أن المشكل لن يكون مطروحا في السنوات الأولى من التعليم بالدارجة، وأن التلميذ سيتفوق في الرياضيات وعلوم الحياة. المشكل سيطرح في السنوات الأخرى لما يتقدم ذلك التلميذ في مستويات التعلم، حين يجد الأستاذ نفسه أمام سؤال “ما هي النصوص التي سأدرسها لهذا التلميذ؟”، سيرد الدعاة إلى التدريس بالدارجة، بالقول “خاصنا نخدمو الداريجا ونصوصها”. طيب، نتفق معكم في هذه الدعوة، لكن كم سنحتاج من الوقت لنخدم هذه اللغة حتى تصير قائمة الذات وقادرة على أن تكون لغة تدريس وثقافة؟ مائة عام على الأقل! حينها إلى أين سيصل الآخرون في المشرق، مقارنة بنا نحن الذين تفرغنا لخدمة الدارجة؟!

في عدد الغد: «دعوت إلى كتابة الدارجة بحرف خاص بها يميزها عما سواها»